– أنيسة داودي
المقدمة : سرديات وترجمات العنف الجنسي في الحروب في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقي

2
10282

المقدمة:

سرديات وترجمات العنف الجنسي في الحروب في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقي

أنيسة داودي

English | Français

“طبيعيٌ هو ذلك الدافع القويُ للسرد ولا مفرّ من شكل السرد الذي توصف فيه الأشياء كما وقعت فعلا, فقد ُتمثل تلك السرديات اشكالا فقط في الثقافة التي تغيب فيها تلك السردياتّ أوفي بعض المجالات تكون مرفوضة كليا أو لاسباب برغماتيكية”    

هايدن وايت (1980) “قيمة السردية في تمثيل الواقع”

” الحقيقة بالنسبة لكل واحد منا هي شيء معقد. فهي للكاتب ما يتركه ولا يقوله يعادل تماما ما يذكره و يدرجه.  فماذا يكمن وراء هوامش النص؟  فالمصور يؤطر للقطته و الكُتاب يؤطرون لعوالمهم. والسيدة وينترسون عارضت ما وضعته و لكن ما تركته هو توأم الجزء الصامت. هناك أشياء لا نستطيع البوح بها لأنها مؤلمة. فنتمنى أنّ الأشياء التي نستطيع افشاءها تُسكّنُ الآلام الباقية و تجعلها مقبولة نوعما. فالقصص والسرديات اجبارية. والعالم غير منصف ولا يوجد سبيل لمعرفته وهوأمر خارج عن إرادتنا.  فعندما نسرد قصة فاننا نمارس رقابة, غير أننا نقوم بذلك كأن نترك ثغرات. فما يكون ذلك إلاّ نسخة وغيرأنها ليست النسخة الأخيرة. فنتمنى أن يُسمع الصمت من طرف شخص آخر حتى يتسنى للقصة أن تستمر و أن يُعاد سردها. وعندما نكتب فنحن نقدم الصمت كما نقدم القصة. فالكلمات هي جزء من الصمت المنطوق.

فتمنت السيدة ونترسون أن التزم الصمت.

هل تذكرون قصة فيلومال التي تمّ إغتصابها و بعدها إنتزع المغتصب لسانها حتى لا تستطيع أن تحكي ما جرى لها. أنا أؤمن أنّ للخيال قوة و هي التي من خلالها نتكلم و نحكي بألسنة.  فلن نكون ملزمين بالصمت. فكلنا عندما نكون في حالة صدمة شديدة فإننا نتردد ونتعلثم ونتوقف لأوقات طويلة في كلامنا. عندها فقط نستطيع أن نرجع للقصيدة. نستطيع أن نفتح الكتاب. لكي نجد أن هناك شخص ما قام بالغطس العميق في الكلمات من أجلنا. حينها نحتاج الى الكلمات لأن العائلات التعيسة ماهي إلاّ مؤامرات صمت.  فمن يكسر الصمت لا يُنسى أبدا ولذلك يجب أن يتعلم من يكسر الصمت أن يسامح نفسه”.

جيننات وينترسون (2001).

“َلِمَّا تكن سعيدا وبإمكانك أن تكون عاديا”

المقدمة

“سرد العنف الجنسي وترجماته في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” هوالموضوع العام لهذا العدد الخاص. و ما قادنا اليه هو اندفاعنا الطبيعي, مستعيرين كلمات وايت, لسرد و ترجمة ما نعلم [1]إلى مشروع الكتابة عن الموضوع. فعادة ما ارتبط ثقافيا سرد قصص العنف بصراع القوى لذلك نجد أنّ ليست كل القصص تُحكى خاصة اذا كان الأمر يتعلق بقوى و أنظمة استبدادية. فما سردُ القصص الاّ استعمال للسلطة من”طرف من وماذا ولمن تُسردُ القصص؟ (فوكو, 1977). فعندما نسرد قصصا عمّا حدث فعلا, فيكون هدفنا ليس إعادة انتاج العنف ولكنه إعطاء صوت للنساء اللواتي تمّ إسكاتهن ومنعهن من سرد قصصهن لنقض الخطاب السائد المهيمن خاصة عن العنف الجنسي في الحروب في منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا.

إنّ المشاركات في كتابة هذا العدد و هنّ من خلفيات علمية مختلفة بين ناشطات حقوقيات وأكاديميات وكاتبات من المنطقة يعلمن جيدا قيمة سرديات النساء في خلخلة وزعزعة الخطابات الراسخة وفي إزالة طبقات من التشويه والتحريف و الهدف المرجو هو تغيير الحاضر والمستقبل. وتكمن أهمية السرد في الاهتمام والإلمام بالتفاصيل وتأطيرالقصص في قوالب خاصة ولغة تُعنى ليس بالمحتوى فقط بل أيضا بما نتركه أو نتغاضى عنه. كما تُؤمن مجموعة المشاركات [2]في هذا العدد بمقولة جيينات أننا “عندما نسرد قصة ما فاننا نمارس سلطة ما, بطريقة تترك ثغرة أو فتحة ما, علما أنّ نسختنا لن تكون النسخة الأخيرة”. ولكنها تبقى نسخة مهمة لابُدّ منها, تضاف إلى مجموعة القصص التي بدورها تشكل الخطاب. فهذا الفعل, أي فعل السرد والكتابة هو ما يبني وينتج نُسخا وصيغا من وعن العالم. فكما تذكر بيكر أنّ القصص الشخصية التي نسردها لأنفسنا عن مكانتنا في العالم وعن تاريخنا الشخصي هي ما يُموقعنا في المجتمع. وهذا بالفعل ما تدركه مجموعة المشاركات. فكما يقول فوكو عن قيمة موقعة أنفسنا في أماكن القوة والاتصالات “يجب أن نتوقف الآن وإلى الأبد عن وصف القوة بكلمات سلبية لأنها تستثني وتقمع وتراقب وتغطي وتضع قناعا وحجابا. في الواقع القوة تُنتج الواقع وتخلق مواضيعا وطقوسا للحقيقة” (فوكو ، 1977 : 194).

نحاول في هذا العدد الخاص أن نقدم ثلاثة إسهامات مُهمة ومُتميزة. فهذه أول مرة يعالج موضوع الإغتصاب في الحروب في منطقة تعتبره موضوعا من التابوهات و تقع ترجمته الى اللغاث الثلاثة الُمُتعارف عليها في المنطقة: العربية, الفرنسية والانجليزية. والهدف من ذلك نشر التوعية. كما أنها المرأة الأولى التي تجتمع فيها ناشطات حقوقيات, كاتبات وأكادميات من المنطقة بالتعاون معا في مشروع لا يضع قيودا للمعرفة. أما من ناحية الاطار النظري للمشروع, فننطلق من أهمية الترجمة كطريقة لقلب الموازين وتحدّي الخطابات الموجودة (أبتر, 2013), ولذلك وجدنا أنه من الضروري أن تُنشر هذه القالات بالغات الثلاث لكي تصل لصُناع القرار والناشطين والطلبة محليا وعالميا لأننا نؤمن أنّ موضوع العنف الجنسي في الحروب ظاهرة عالمية. أما الميزة الثانية لهذا العدد فهي تسرد مادة مهمة ونادرة عن العشرية السوداء في الجزائرخاصة وأنّ قانون العفو أو السلم العام يقف عائقا أمام كل من يحاول التعرض للحقيقة في تلك الفترة. فيُعتبر هذا العدد بمثابة نداء صريح للمطالبة بالعدالة ورفض صريح لقانون المصالحة. ولذلك فالهدف الثالث من هذا العدد هو كسر صمت النساء والعمل على تمكينهن من سرد قصصهن بغرض كتابة تاريخهن. فهن بذلك لا يضعنّ  النقط على الحروف فقط بل يساعدن على تصحيح مسارهن محليا ودوليا ويمضيّن قدما نحو محاربة الأبوية والظلم وعدم المساواة.

كما نأمل من هذا العدد أن نعود الى الماضي لنفهم الحاضر ونشارك في بناء مستقبل زاهر لابنائنا. و هذا يُحيلنا الى سؤال طرحته تُورشن في سنة 2002 في مقالها عن حال النساء الجزائريات  حيث تقول: “ماذا حلّ بالنساء الجزائريات اللواتي كنّا ناشطات في حرب التحرير حتى يصبحن بهذه السلبية في الحرب الأهلية؟” فتبدأ مقالها بوصف صورتين متناقضتين: واحدة تُرجعنا إلى المجاهدات وهنّ يضعن القنابل في إشارة إلى دورهن العظيم في الثورة والذي لم يكن يقتصر على الطبابة و الطبخ بل تعداه إلى القتال جنبا إلى جنب مع المجاهدين.  أما الصورة الثانية فهي لامرأة جزائرية أسيرة من قبل “المجاهدين” الاسلاميين إبان الحرب الأهلية في فترة التسعينيات, وظيفتها الأساسية هي تقديم خدمات جنسية ومنزلية للأمير أي جارية.  تقول تورشن كأنّ الصورتين من قرنين مختلفين. و هذا يدعونا إلى أن نسأل سؤالا غير مباشر: هل المسؤول عمّا وصلنا إليه هوغياب دورالمجاهدات في فترة الاستقلال وعدم مشاركتهن في كتابة تاريخهن؟ فهل أنّ عدم مشاركتهن في بناء دولتهن المستقلة أدى إلى غياب القدوة التي يحتذى بها من الأجيال التي تلت الاستقلال؟  فهذا ما نأمل الاجابة عنه من خلال بعض المقالات في هذا العدد خاصة بالنسبة إلى الطريقة التي تمّ إسكاتهن بها. وهنا نقول إنّ أعيننا ليست على الماضي فقط بل على حاضر ومستقبل النساء الجزائريات. ففي الجزء التالي نتعرض لطرق الإسكات التي استعملت ضدّ النساء.

جنسانية العنف في الجزائر: دور اللغة

الجزائر, بلد الجميلات الثلاثة: جميلة بوحيدر, جميلة بوباشا وجميلة بوعزة. بلد الجميلات اللواتي قاتلن المستعمر بشراسة. فرغم أن هذه الاستعارة “بلد الجميلات” التي تمّ إستخدامها وإستغلالها في الثقافة العربية راسخة في المخيال الجمعي على أنها الحقيقة ولا أحد يستطيع أن يُغالي أو ينكر ذلك. واننا إستعملنا كلمة استغلال الأيقونات الجزائريات لكي نُبيّن ما تشيرإليه مهنا‏(2014 : 48) “إنّ معادلة الأرض-جسد المرأة والتي تتقلص المرأة فيها إلى مجرد رموز مجرّدة خاوية من المحتوى لوصف أُمّةٍ من غير حقوق مواطنة” فنحن نعلم جميعا أنّ رمز “الوطن الأم” يمر علينا مرارْا و تكرارْا خاصة في الخطابات القومية مكلين (2007). فنجد نفس إستراتيجيات السيطرة التي تستبعد النساء من مواقع القرارومن المشاركة في بناء الدولة. ولوأمعنّا النظر في إستعارة الأرض وحللّناها وفقا لنظرية الاستعارة المفاهمية لآكوف وجونسون (1980) و التي يكون فيها المجال الهدف مرتبط بصورة مثلا الزراعة, الخصوبة, القوة والأمان لوجدنا أنّ الاستعارة لا تترك مجالاْ لأيّ صورة سلبية قد ترتبط بصفة المجاهدات. غيرأنّ هذه الصورة تغيّرت خاصة في الفترة الأولى من الإستقلال عندما تمّ تأطير الجميلات على أنهن “ينتمين إلى نخبة النساء المسلمات صاحبات الثقافة الفرنسية أوعلى الأقل “المُفرنسات” كما كان يُطلق عليهن.  من هنا بدأ الاستغلال وعملية الابعاد أوالعنف الثقافي ضدّ مجاهداتنا خاصة في فترة التعريب التي تلت الاستقلال. كان إبعاد فرنسيات الثقافة يعني رجوعهنّ إلى أدوارهنّ التقليدية أي إرجاعهن إلى المجال الخاص لأنهنّ ببساطة لا يتقنّ اللغة الفصحى التي من المفروض أن تُستعمل في المؤسسات والمحافل الرسمية. اللغة العربية الفصحى هي اللغة الرسمية حسب الدستور الجزائري وبالتالي فمن كتب التاريخ هم الرجال وبالتحديد الفئة المُعرّبة. وهذا الأسلوب هو واحد من بين الأساليب التي تعرضنا لها في هذه المقدمة والذي يُبين أنّ المجال لم يكن متاحا للمجاهدات كي يدونّ أرشيفهنّ.     

فقد ذكرت وزارة المجاهدين سنة 1974  أنّ  11,000 جزائرية شاركن في حرب التحرير وهذا يعني %3 من إجمالي المجاهدين وهو ما جعل المجاهدة دانيال جميلة عمران تُصرّح أنّ هذا نقص في التقدير. وأنّ من ذلك الرقم نجد % 22 كنّ من المدن و % 78 من المناطق الريفية. وهذا الرقم يعكس تماما نسبة التمدن في الجزائر ذلك الوقت. فبالتالي لم تكن معركة المجاهدات ضد المستعمر فقط بل تعدتها الى العمل على تحرير المرأة الجزائرية من الجهل والعبودية. فلم تكن مشاركة النساء المتعلمات الوقوف مع الثوار فقط بل العمل الميداني في القرى والمداشر لتوعية النساء بضرورة الكفاح من أجل الإستقلال. غير أنّ هناك دراسات تذكر أنّ بعض المجاهدات واجهنّ الرفض من عائلتهنّ إمّا بسبب تعرضهنّ للإغتصاب أولمخالطتهن الرجال. والنسبة القليلة التي حصلت على وظائف تمّ ارغامهنّ على ترك العمل والرجوع إلى الأدوار التقليدية. وما فيلم أسيا جبار”نوبة نساء الشنوة” إلاّ تمثيل للإستعمار وللثقافة السائدة في بلاد الكاتبة. ففي هذا الفيلم تِؤكد جبار على أهمية التاريخ والذاكرة وتتساءل: لمن هو تاريخ الجزائر؟ من يتكلم عنه؟ ولمن؟ وبأي لغة؟ فهي تذكرنا أنّ عملية الإبعاد لم تكن للمجاهدات بل طالت جيلا بأكمله, جيلا لم يتعلم سوى اللغة المتاحة له أنذاك وهي الفرنسية. غيرأننا في هذا العدد نريد توسيع المجال لنتناول فترة الحرب الأهلية أوما يسمى بالعشرية السوداء في الجزائر للتعرف على  وضع المرأة الجزائرية أنذاك .

ذاكرة المرأة الجزائرية إبان الحرب الأهلية

وُصِفت الحرب الأهليّة بأنها واحدة من أكثر الفترات وحشيّة منذ استقلال الجزائر.  وتشير التقديرات إلى أن أكثر من200,000 شخص قُتلوا وأن الآلاف “أصيبوا بجروح وحشيّة، وشُرّدوا، واختِطفوا، وانتُهِكوا جنسياً، وفقاً لتقرير منظّمة العفو الدولية لعام 1996” (ميهتا ، 2014:69). و حتى لا نتصورأنّ العشرية السوداء كان سببها فترة التسعينيات, نقول أنّ الأسباب الغير مباشرة بدأت قبل ذلك بكثير. عرفت الجزائر فترات مُنيرة في تاريخها غير أنها تغيرت بسبب نظامها القمعي المتمثل في الحزب الواحد,  حيث أصبح الفساد والبطالة والمحسوبية والتمييز بين الجنسين والفصل بين الأقليّات أمراً شائعاً. وفي الثمنينيات 1980 كان البلد مستعداً لانفجار من نوع آخر. وكانت الازمة محسوسةٌ اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وخرج الناس إلى الشوارع في ما يعرف ب “مظاهرات أكتوبر” في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر 1988. وبدأت الانتفاضة بالطرق السلمية ولكن سرعان ما سحق الجيش المتظاهرين بوحشيّة. واستفاد الاسلاميّون من التوترات فبدؤوا في تقديم أنفسهم على أنهم منقذو البلاد. وكانوا يريدون أن يُنظرَ إليهم على أنهم من أعادَ الهويّة الجزائريّة التي لا تزال بالنسبة لهم تابعة لفرنسا. وكما تقول زاهية صالحي[3] (2010) فإن العسكريين أصبحوا أكثرَ عسكرةً، وانخرط الاسلاميّون في صراعٍ مسلحٍ، ونتيجة لذلك جُرّت البلاد إلى واحدة من أفظع لحظات تاريخها. فالمدنيون هم الضحايا في نهاية المطاف ولا سيما النّساء. في الواقع تعتقد صالحي أن المرأة أصبحت هدفاً متعمداً للأصوليين الإسلاميين منذ السبعينيات. وتشرح صالحي كيف أدى الحكم التمييزي في قانون الأسرة إلى تفاقم العنف ضد المرأة وأضفى الشّرعية عليه، وجعل من الصّعب عليها معالجة عواقب الانتهاكات الواسعة النطاق لحقوق الإنسان (2010). وتُسمي مارنيا لزرق سنة [4]1984 بأنها “سنة قطع العلاقة بين النّساء وحكومتهن وبين المرأة والسؤال الجذري حول شرعية الدولة”.

تَصفُ دليلة لمارين جربال ما يميز الوضع فتقول: 

“العنف الجسدي على نطاق واسع ثم قتل النّساء اللواتي لا يحترمن الزّي أو قواعد السلوك واغتيال المواطنات المكلفات بدعم السلطات أو النّساء اللواتي لهن صلة بأفراد الأجهزة الأمنية وإلزام النّساء والأُسَر بدعم الجماعات المسلحة وبدء الإغتصاب من خلال الزواج القسري وتضاعف عملياًت الاختطاف والإغتصاب تحت ستار ما يعرف باسم زواج المتعة واختطاف النّساء والتميز ضدّهن والإغتصاب الجماعي والتعذيب والقتل وتشويه كامل الإقليم”.

ويعكس الاقتباس المذكور أعلاه العنف البدني الذي يُمارس ضد المرأة الجزائريّة مما يترك بلا شك ندوباً نفسية. وهو يلخّص الذرائع المختلفة التي تستهدف المرأة. الأول يتعلق بالمرأة في المجال العام و”احترام” اللباس والسلوك. وقد بدأ مفهوم الحجاب[5] في منتصف السبعينات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين جلبه المعلّمون العرب الذين جاؤوا إلى البلاد في ظل حركة التّعريب والذين لهم صلات بحركات الإخوان المسلمين. وكان هدفهم هو إعادة تعاليم الإسلام إلى الجزائر التي كانت لا تزال ناطقه بالفرنسية. واضطر عدد كبير من النّساء الجزائريات إلى ارتداء الحجاب وأولئك اللاتي رفضن القيام بذلك تلقّينَ تهديدات بالقتل، وفي بعض الحالات قُتلنَ واستُخدمنَ كمثال لإرهاب نساء أخريات. وأُصدرتْ فتوى[6] تُضفِى الطابع القانوني على اختطاف النّساء وزواجهنّ المؤقت بطريقة مشابهة جداً لكيفية معاملة النّساء اليزيديات تحت حكم داعش اليوم. ووفقاً لما ذكره الاسلاميّون فان الحجاب هو ما يميز المرأة المسلمة عن غير المسلمة. وهو أيضا ما يحدد الحدود بين المجالَين الخاص والعام. وكل هذه القواعد الصارمة تبرّرُ العنف البدنيّ وقتلَ النّساء اللاتي يرفضن التقيد بالحكم الدّيني. وكانت الضحيّة الأولى هي حالة كاتيا بن قنّة الشهيرة وهي فتاة في المدرسة الثانوية تبلغ من العمر 17 عاماً، وقد تمّ تحذيرها ولكنّها أخبرت والدتها قائلة: “حتى لو يغتالونني بعد يوم لن ارتديَ الحجاب دون رغبتي. وإذا كان لا بد لي من ارتداء شيء ما فانه سيكون اللباس التقليدي القبائلي بدلاً من الحجاب المستورد الذي يريدونَ أن يجبروننا عليه” (تورشين 2002:898). ويُوضح بيان كاتيا مدى التحدّي الذي كانت عليه رغم أنها شكّتْ في أنها ستُقتل من أجل آرائها القوية.  بالإضافة إلى ذلك كانت هويتها القبائلية الأمازيغية أكثر أهميةً بالنسبة لها. وهي تشير إلى الحجاب كأيديولوجية مستورده تُفرض على الجزائريين من شبه الجزيرة العربيّة في أشارة إلى الأيديولوجية الوهابية[7]. وهذا الشعور يشاطره عدد كبير من الجزائريين الذين يدَّعون أن الإسلام الجزائري الذي ترعرعوا عليه له خصوصياته وأنهم لا يحتاجون إلى دروس في الإسلام من أي مصدر آخر.

بعد عشرين عاماً، تكتب شقيقتها على الفيسبوك: “أنا ابكي وأغضب من تلك النّساء المحجبات اللاتي يعتقدن أنهن حرّات في حين أنهنّ مسلوبات الحريّة. كاتيا فتاه اتخذت قرارها بنفسها ولم تنحن للإسلاميين القتلة الظلاميين. كم نحتاج من كاتيا لكي تتحرر النّساء يوماً ما؟  وينبغي أن يُنظر إلى كاتيا كرمز للنضال ضدّ عقول العصور الوسطى. كانت شُجاعة وكانت مستعدة للمضي في طريقها وعلى قناعاتها امراًة حرة أمازيغية فعلاً كما كانت ملكة الأوريس مثال على القوة والذكاء “[8] (26.01.17). في مؤتمر جامعة برمنغهام أكتوبر 2014 حول “السرد وترجمة العنف الجنسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: دور اللغة” أشارت السيدة وسيلة تامزالي إلى قضية كاتيا وأكدّت أنه لا ينبغي أن نتذكرها أنها أمازيغية. وبدلاً من ذلك ينبغي الاحتفاء بها كأمراًة جزائرية. وتضيف أنه بتقسيم المواطنين الى أمازيغ وعرب فان الجزائريين يسقطون في الأيديولوجية الاستعمارية المتمثلة في ‘ فرق تسد ‘. لم تُقتل كاتيا لأنها كانت أمازيغية ولكن لأنها رفضت ‘الإسلام السياسي’. بالنسبة لتامزالي فان الحديث بالنيابة عن كاتيا أمر بالغ الأهمية ويجعل صوت كاتيا مسموعاً بنفس القدر من الأهمية. واختارت أن تجعل قضية كاتيا قضية وطنية لأنها تدرك أن هناك عدداً كبيرمن النّساء مثل كاتيا في الجزائر. وتُبين التقارير الأخيرة الواردة من مناطق في العراق وسوريا تحت سيطرة التنظيم الإسلامي كيف أنّ المرأة لا تزال تتعرض لظروف مماثلة من الإغتصاب والقتل والاسترقاق الجنسي.   ومن ثمّ فانّ دعوة تامزالي لها أهمية عالمية وهي نتيجة لسنوات عملها في الأمم المتحدة حيث تعاملت مع محنة المرأة في البوسنة.

وتتعلق المسألة الثانية من اقتباس لامارين باستهداف المواطنات “المتهمات بدعم السلطات أو النّساء اللائي لهنّ صلة بأفراد الأجهزة الأمنية”. وتشمل هذه الفئة من النّساء شريحة كبيرة من السُّكان الجزائريين وهنّ زوجات أو أخوات أو أمهات رجال يعملون في أجهزة الأمن وقوات الشرطة والجيش ويطلق عليها الأصوليون إسم “الطغاة” أو الطاغوت[9]. وهذه الأخيرة هي كلمة من العربيّة الكلاسيكية تأخذنا مباشرة إلى إستخدام الكلمة في الماضي البعيد. والكلمة مذكورة في القران الكريم (سورة النحل)[10]. في هذه الحالة يُشار إلى ‘ الطاغية ‘ أو الحاكم بأنه ‘الشر’ وهكذا يصبح القضاء على الشر واجباً على المؤمن.  ويمكن استخدام هذه الاستعارة المفاهيمية لشرح العملية التي تصبح بموجبها إبادة الضغاة أوالكفار غير المؤمنين أمراً مباحاً. إنّ استخدام صورة طاغوت تثير صور مختلفة ترتبط ارتباطاً مباشراً بالقرآن وأيضا بفترة ما قبل الإسلام حيث كان الناس يعبدون أشكالاً أخرى من الآلهة، وهو ما يميز المؤمن عن غير المؤمن ويشير إلى صورة ‘الشر’ و ‘الحاكم الظالم’  والمفهومان كافيان على سبيل المثال للمفتي الكبير (الواعظ) في المملكة العربيّة السعودية[11] لتبرير عقوبة الإعدام.

وهناك مفاهيم أخرى بدأت تظهر في المجتمع الجزائري في ذلك الوقت: تشير دليلة لامارين جربال إلى “زواج المتعة[12]” وهو مصطلح قدّمه الاسلاميّون ويشير إلى شكلٍ من أشكال الزواج المؤقت الذي يمارسه بعض المسلمين الشيعة في الشرق الأوسط ولكن ليس في شمال أفريقيا، وهو غير معروف في الجزائر حيث غالبية السُّكان من السنّة.  كما ظهرت أشكالٌ أخرى من الزواج مع ظهور الإسلاموية مثل زواج المسيار (وهو شكل آخر مؤقت للزواج مقبول في الطائفة السنية الوهابية). وبدأت أشكال أخرى من الاعتداء على الجمعيات النسائية تتسرب في إطار مصطلحات مختلفة إلى المجتمع الجزائري. و نستدل برواية فضيلة الفاروق تاء الخجل حين تشير الى كلمة “الإغتصاب”  في اللغة العربيّة وتضعها بين معقفين باعتبارها مصطلحاً مثيراً للجدل ومع ذلك فإنها تشرح بوضوح جذورها الخاصة في اللغة العربيّة الكلاسيكية وبذلك تقوم الفاروق ضمنياً بمهاجمة المؤسسة الدّينية لاستخدامها “المفاهيم الإسلامية” كرصيد رمزي (انظر الفصل الثاني لداودي في هذا الملف).

كما يُسلط اقتباس جربال الضوء على الفظائع التي مرّت بها المرأة الجزائريّة خلال “العشرية السوداء”. فكان العنف حقيقياً ورمزياً ضد المدنيين، لا سيما النّساء اللواتي تعرضنَ للاغتصاب والتعذيب والقتل بصورة جماعية، كما أشارت جربال (انظر المناقشة المتعلّقة بقتل المعلّمات في الجزء الغربي من الجزائر في الفصل الثاني). وفي التسعينات خرجت النّساء العاديات في الجزائر إلى الشوارع للتنديد بالعنف ضدهنّ. وفي عام 1994 دعت الجماعة الإسلامية المسلحة إلى مقاطعة المدارس، ومع ذلك وبالرغم من العديد من عملياًت إحراق المدارس وقتل المدرسين، فان النّساء بَقينَ يجلبن أطفالهن إلى الصفوف كتحدٍ، وازداد العنف لأنه قُوبل بمقاومة من الحكومة والمواطنين بمن فيهم النّساء وقام الإرهابيون “بتصعيد أنشطتهم وإقامة حواجز على الطرق وقتل كل من يقف في طريقهم” (تورشين 2002:897). ومن بين الأفعال الأخرى الموجهة ضد المرأة إصدار الفتوى، أي تشريع قتل الفتيات والنّساء اللاتي لا يرتدينَ الحجاب. وهناك فتوى أخرى تشرّع اختطاف النّساء وتزويجهنّ زواجاً مؤقتاً ووفقاً لما ذكره الاسلاميّون فانّ الحجاب هو ما يميز المرأة المسلمة عن غير المسلمة وهو أيضا ما يحدد الحدود بين المجاَلين الخاص والعام، وكل هذه القواعد الصارمة تبرر العنف البدني وقتل النّساء اللاتي يرفضن التقيد بالحكم الدّيني وسيسلط الجزء التالي من هذه المقدمة الضوء على المنظمات النسائية الجزائريّة وعلى مكافحتها لما يحدث.[13]

دور المنظمات النسائية في الجزائر في العشرية السوداء: مقاومة

أُخضعت المرأة الجزائريّة لأسوء أنواع العنف قبل الحرب الأهليّة. ففي الخطابات العامة الصادرة عن الحزب الإسلامي[14] (FIS) كانت بعض النّساء المطالبات بالمساواة يُصورنَ على أنهنّ غير مؤمنات وغربيات وعديمات الأخلاق وكان هناك حاجة ملحة لإعادتهنّ إلى أدوارهنّ التقليدية حيث كنّ وفقاَ للجبهة الإسلامية للإنقاذ يشغلن وظائف كان من المفترض أن تكون للرجال. وقد لقي هذا الخطاب قبولا من الرجال العاطلين عن العمل بالذات في الوقت الذي ضربت فيه الازمة الاقتصادية البلد بسبب الفساد وانخفضت أسعار النفط في بلد يعتمد أساسا على الموارد الطبيعية. وأصبحت الجزائر أكثر عداء لوجود المرأة في المجال العام وقد تعرضت النّساء المطالبات بالمساواة للمضايقة ومُنعن من القيام بإعمالهن بالإضافة إلى عدم السماح لهن بالعيش بدون الأقارب القريبين (مثل الأخ والزوج والابن وما يسمي بالمحرم). ولم يساعد وجود قانون عام 1984 أيضا (كما وضحنا في الفصل الثاني) حيث يضفي هذا القانون الصبغة المؤسسية على العنف والتمييز ضد المرأة.  فتقول آيت حمو (2004: 117)[15]، أحد الأعضاء المؤسسين لشبكة وسيلة، أنّ الحكومة الجزائريّة اختارت المحافظين وبعد ذلك الأصوليين الإسلاميين لحماية مصالحهم والبقاء في السلطة. وقد قدمت حكومات مختلفة تنازلات وتضحيات لحقوق المرأة في سبيل الحفاظ على السلام مع الأصوليين. فعلى سبيل المثال في عام 1989 تواطأ المحافظون داخل جبهة التحرير الوطنية ([FLN[16]) مع الأصوليين لاتخاذ تدابير ضد تحرير المرأة. ومن ذلك على سبيل المثال، زيادة التعلىم الدّيني في المدارس الابتدائية وجعل الرياضة غير إلزامية للبنات وهلم جرا (نفس المرجع السابق). فبعبارة أخرى كان تواطؤ جبهة التحرير الوطنية في النظام التعليمي في الجزائر مستمراً منذ سنوات.

أما على الصعيد العالمي فعندما كانت النّساء الجزائريات يواجهن العنف  يومياً فان العالم بأسره غضّ البصر عما يجري، وكما تقول الأستاذة آيت حمو “منذ 11 أيلول/سبتمبر: يبدو أنّ العالم ولا سيما الولايات المتحدة قد أدركت فجأة أنّ الأصولية الإسلامية في شكلها المتطرف، تشكل تهديداً حقيقياً”. وتضيف أنّ “الكثيرين منا لا يسعهم  الاّ الشعور بالمرارة إزاء مثل هذا الموقف لأننا حاربنا الأصولية والإرهاب بمفردنا بأيدينا وبدون سلاح لعدة سنوات في حين حصل الأصوليون الذين ارتكبوا أكثر الجرائم فظاعة في بلداننا على الدعم من نفس الحكومات التي تملي الآن على بقية العالم كيفية “محاربة الإرهاب”. هذا الشعور بالمرارة حيال شعورنا إننا تُركنا لوحدنا دون دعم على الإطلاق لا من أصدقائنا العرب ولا من بقية العالم هو ما يكرره النّساء والرجال الآن عندما يُسألون عن سبب عدم انضمامهم إلى ما يسمى “الربيع العربي”. وثمة مسألة أخرى مثيرة للقلق تشير إليها آيت حمو وهي قانون العفو لعام 1999 الذي تنتقده معظم المنظمات النسائية حتى الآن.

وكان الهدف من قانون العفو هو الانتهاء من الحرب الأهليّة الجزائريّة بتقديم عفو عن معظم الجرائم المرتكبة، وقد أجريَ الاستفتاء عليه في 29 أيلول/سبتمبر 2005 وتمّ تنفيذه بوصفه قانونا في 28 شباط/فبراير 2006، غير أن النقاد يَسِمونه بإنكار الحقيقة والعدالة لضحايا الارهاب وأسرهم.  و مثال على الأصوات ضد قانون العفو هي شريفة خضار، رئيسة و مُؤسسة جمعية جزائرنا، والتي أُنشئت في 17 أكتوبر / تشرين الأول 1996 بعد إغتيال شقيقتها وشقيقها في الهجوم الذي إسهتدف عائلتها بما في ذلك والدتهم من قبل الإسلاميين، وإتحدت شريفة مع الناجيات والناجين من الإرهاب لمنحهم صوتا يُدين قانون العفو ويطلب العدالة. وفي هذا الملف تقدم “بنون” معلومات مفصلة في الفصل الأول عن عمل هذه المنظّمة في هذه المسألة.

وكانت المنظمات النسائية تقاتل ضد الأصولية المبنية على الثيوقراطية “الحكومة الدّينية” والنزعة الذكورية باعتبارها مصدر العنف، حيث أعربت جميع هذه المنظمات عن اعتقادها بان أوائل الثمانينات كانت بداية الأصولية في الجزائر. وهم يوافقون على أن خُطب الجمعة التي كانت تصدح على مكبرات الصوت[17] وتركز على أجساد النّساء بوصفهنّ بأنهنّ فاسقات لوضعهنّ مثلا أحمر الشفاه أو لخروجهن بدون حجاب. كما هُوجمت الجامعات. ولكنها قُوبلت بإجراءات ضعيفة  من طرف السلطات. وفي حزيران/ يونيه 1989 أضرمت مجموعة من الأصوليين النار أمام العامة في منزل لأمراًة مطلقة تعيش مع أطفالها وقد أُحرقَ أطفالها الثلاثة حتى الموت. ونددت الجماعات النسائية بالجريمة ونظمت أول مظاهرة في شوارع الجزائر. وساعد الصمت وتواطؤ الدولة الإسلاميين على التمادي في أعمال العنف. ففي سنوات 1992-1993 قُتل آلافٌ من الرجال والنّساء وعاش البلد في رعب وكانت أول أمراًة تقتل هي كريمة بلحاج سكرتيرة أمين المكتب العام للأمن الوطني[18]. وكانت خيارات المنظمات النسائية في الجزائر محدودة فكان عليهن أن ينجون من الفظائع بأية وسيلة. فكان بعضهن يرتدين الحجاب لتجنب المواجهات في حين قاومت أخريات ذلك. ويحتاج المرء فقط إلى أن ينظر إلى المجتمع الجزائري الآن ليدرك أنّ أكثر من نصف النّساء محجبات.  ولدى الناشطات في مجال حقوق المرأة استراتيجية وطنية لمكافحة الأصولية عن طريق الخطابات المضادة في مناسبات عديدة، فكن يخرجن للشارع ويحملن صور من قتلوا في وقت كان فيه الناس مذعورين. وكان الاجتماع العام الأول في عام 1993 الذي نظمه تجمع المرأة الديمقراطية الجزائريّة واستخدمت المحكمة الصورية ضد الإرهاب (آيت حمو – المرجع نفسه). كما نددت منظمات حقوق المرأة بالخطابات الأمريكية والأوروبيّة تحت اسم الديمقراطية بأن الإسلاميين كانوا ضحايا من خلال المساهمة في المناقشات الدولية باستخدام القنوات الإعلامية الأجنبية والمشاركة في المؤتمرات الدولية.

وأنشأت النّساء العديد من الجمعيات النسائية مثل (SOS) و نساء في خطر ( Femmes en Detresse ) وتكتل القوى الديمقراطية ( RAFD ) و (RACHDA  )  حيث تَواصلَ الكفاح من أجل حقوق المرأة وتقديم الخطاب المضاد للتطرف.

إنّ تاريخ العنف الذي تعرضت له المرأة الجزائريّة من طرف الجماعات الجهادية قبل نحو 20 عاماً ،كما تقول بنون في هذا الموضوع، والطريقة التي حدث بها والتي تمّ التغاضي عنها وتجاهل الضحايا وإهمالهم ونسيانهم، يجب أن تثير الغضب والاستياء على الصعيد العالمي، لأن هذا العنف في القضية ليس مسلّط على المرأة الجزائريّة فقط بل هو قضية عالمية وفهمها يقدم رؤىً حول فهم داعش اليوم. وتتناول مقالة بنون في هذه المسألة الإغتصاب في الجزائر في “العشرية السوداء” حيث تقدم صورة حقيقية لما كانت عليه الجزائر خلال الحرب الأهليّة، وتُدقق في الطرق التي سُرد بها الإغتصاب وذلك بإجراء مقابلات مع الناجيات والناجيين وهو أمر لا يسهل القيام به حتى الآن بموجب قانون العفو. وتسهم خبرتها في القانون وبحوثها في العمل الميداني بشأن موضوع الإغتصاب في الجزائر وفي أجزاء أخرى من العالم الإسلامي في الطابع المتداخل لهذه المسألة. ويظهر مقالها معرفتها بالجزائر من الداخل والخارج وتحليلها العميق للأحداث.

ولاستكمال مقالة بنون, تشدّد داودي على الإنتاج الثقافي في التسعينات في الجزائر في مقالها المعنون ” لا ترجمانية الجزائر في “العشرية السوداء” يضع مفهوم عدم إمكانية الترجمة ويقدمها ليس فقط  ككيان متجانس بل كمفهوم متعدد. إن الترجمة كوسيلة للخطابات المثيرة للقلق (أبتر, 2013) هي أساس الحجج حول أدوار الجنسين ومساهمة في الجزائر قبل وبعد الاستعمار. وهو يساعد على تفكيك الروايات التي كتبها الرجال ويساعد على إخراج الخطابات المقموعة.  من خلال التحليل الدقيق لمختلف الخطابات المتعلّقة بالجنسانية وحول العنف في الجزائر، توضح هذه المقالة التلاعب في الخطابات حول المرأة الجزائريّة خلال الفترة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في الجزائر، ويناقش أيضا دور الكتّاب الجزائريين في إسماع صوت مواطنيهم الذين لا صوت لهم للمساعدة في أرشفة تاريخهم وبناء ذاكرتهم الاجتماعية والجماعية. بالإضافة إلى ذلك فإنها تؤكد على أدوار اللغة والترجمة في بناء الجزائر المتغيرة باستمرار مع التركيز على الحرب الأهليّة عام 1990.

وتبرز أمال قرامي المتخصصة في الدراسات الجنسانية والإسلامية والتي عملت مع النّساء الجهاديات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مجالاً لم يدرس من قبل. فتقول أجد نفسي متوقفةً أمام عدد من المواضيع ذات الصّلة مثل “السبي” و “جهاد النكاح” وهي التي كتبت على الموضوع بغزارة و بعمق. كما تضيف أنّ “جهاد النكاح” على وجه الخصوص قضية مثيرة للجدل في تونس بعد الربيع العربي. وتقول قرامي إنّ التصريحات الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية التونسية أعلنت أن هناك بالفعل مجموعات من النّساء التونسيات اللواتي سافرن إلى سوريا بهدف “جهاد النكاح”. وهي تجلب للأضواء مختلف الروايات المتعلّقة بالعنف الجنسي في تونس والغرض من سرد هذه القصص ليس دراسة الماضي وإنما محاولة فهمه في الوقت الحاضر على سبيل المثال في فهم اغتصاب النّساء اليزيديات في منطقة الشرق الأوسط (انظر المادة التي أعدّتها قرامي في هذا الملف الخاص).

ولا تقتصر مكافحة المرأة الجزائريّة ضدّ الصمت والأصولية على الناشطين في مجال حقوق المرأة على أرض الواقع.  فهناك نساء أخريات وكتّاب حاربوا بأقلامهم، وتأتي آسيا جبار بوصفها رائدة في الجيل الذي عايش الاستعمار ومليكة مقدم في جوهر المقال الذي كتبته أيمان كوزو في هذا العدد.  وتعتقد أنّ صمت المرأة الجزائريّة قد يكون عملا اجتماعياً وثقافياً وأيديولوجياً غير طوعي وهو وسيلة لدفن الحقيقة الفظيعة في قبر منسي.  فالصمت فرضه الواقع الاستعماري ولا يزال ينفذ بواسطة تقليد ما بعد الاستعمار والمجتمع. استخدم العديد من الكتاب الجزائريين بعد الاستقلال لغة المستعمر نفسه لمقاومة استيعابهم في عملية إدماج أو القتال على مساحات خارجية وداخلية[19] لذلك توضح كوزو بأنّ الصمت يصبح عملاً سياسياً تقوم المرأة من خلاله بتخريب خطاب الظالمين من خلال الإبقاء على عالمهم السري.

أما العنف في التسعينات فيما يخص الانتاج السينمائي فهذا ما ناقشته ريم ورتسي في مقالها حيث اختارت الأفلام الثلاثة التالية: ‏ رشيدة، حريم مدام عثمان، وبركات!  فهي تنظر إلى الأفلام كوسيلة أخرى يُعبر من خلالها المخرجون الجزائرون عن صدمتهم وآلامهم في العشرية السوداء. وفي مقالها تستكشف العلاقة بين الجنسين والعنف واللغة. فتُذكرنا بأنّ العشرية السوداء هي الفترة التي فرّ خلالها معظم الفنانين من البلاد بعد تلقيهم تهديدات بالقتل ممّا أدى إلى تفكيك صناعه الأفلام.   علما بأن الأفلام التي أنتجت خارج الجزائر كانت عن طريق التمويل الخارجي.

وفي دراسة مقارنة تشير بجاوي إلى “العشرية السوداء ” من خلال عمل كاتبتين ناطقتين بالفرنسية وهما آسيا جبار وميساء باي وقد درست الروايات التي تدورحول عنف التعصب الدّيني الذي أفزع المجتمع الجزائري في التسعينات. الروايات الي اختارتها بجاوي هي: تحت شجرة الياسمين في الليل (2004)[20]لميساء باي وهران لغة ميتة لأسيا جبار. ومن خلال قراءتها للروايتن تصف بجاوي العنف المسلط على النساء في الجزائر.

الخاتمة

إزداد العنف في السنوات الأخيرة أوعلى الأقل جعله التقدم في تكنولوجيا المعلومات يبدو كذلك. هذا يعني أن العنف كان قائماً دائماً ولكن الناس لم يسمعوا بالضرورة عن هذا الموضوع وبالتأكيد لم يعتادوا على رؤية ذلك مباشرة. وقد يسرت شبكة الإنترنت حركة المعلومات. على سبيل المثال فإنّ صورة المرأة المصرية التي جُرّت بواسطة ضابط الشرطة المصري حمالة صدرها فقط في ميدان التحرير أصبحت مشهورة على وسائل التواصل الاجتماعية وعرفت باسم “حدث حمالة الصدر الزرقاء”. وتتسم الأحداث الأخرى في المنطقة العربيّة التي يطلق عليها الربيع العربي أوالثورة بردود فعل مثيره للاهتمام خاصة في موضوع دور المرأة في الكفاح من أجل الحريّة وتتفاوت من قصص عن الحكومة المصرية التي تخضع المشاركات لاختبارات البكارة إلى قصص مروعة عن الإغتصاب الجماعي في ميدان التحرير (القاهرة) لدعوات واعظ للحرب الجنسيّة المقدسة في ما يعرف باسم جهاد النكاح (الذي يقدم أساسا خدمات جنسية لمقاتلي ضد النظام السوري) واستخدام مصطلحات من اللغة العربيّة الكلاسيكية للأشارة إلى الحرب المقدسة في السّياق الجديد. رويت جميع هذه القصص والكثير منها وفي بعض الحالات استخدمت وأسيء استخدامها لإضفاء الشّرعية على ردود فعل عنيفة وهي أيضا جزء من التاريخ الذي يتم بناؤه من خلال رواية طبقات من قصص معقدة متشابكة. فيقول هومي بابا: “أن عملية خلق أوإنشاء أخبار قد ينشئ شبكة من التاريخ وقد يُغير اتجاه تدفقها” (ورد في مقال غانا و هارتينغ 2008:5). وهذا الرأي نفسه تشاطره أيضا منى بيكر التي توضح أنّ الروايات هي التي تبني الواقع. هذا هو خط الفكر الذي يدفعنا (أكاديميات من المنطقة) وكاتبات ومخرجات أفلام .. الخ. لنشر هذه القضية التي تهدف إلى تفكيك السرديات الرسمية وإعطاء صوت للسرديات الصامتة في التسعينيات. وبقيامنا بذلك لا نعبر عن سرديات ما يسمى بالآخر الذي يمكن أن يكون بعيداً جغرافيا ولكننا نروي العنف كظاهرة عالمية وكقضية أخلاقية والأهم من ذلك البحث المستمر عن الحقيقة.  وفيما يلي شعار الطاهر جعوط الذي عبّر روح هذه القضية الخاصة.

الصمت يعني الموت

إذا تكلمت فإنهم يقتلونك.

إذا التزمت الصمت فإنهم يقتلونك.

لذا تكلم ومُت

[1] See Hayden White’s etymological definition of both words ‘knowing and telling’ in his article “the Value of Narrativity in the Representation of Reality” in Critical Inquiry, Volume 7, No 1 (Autumn, 1980) 5-27.

[2] Salhi, Z. (2013). Gender and Violence in Islamic Societies: Patriarchy, Islamism and Politics in the Middle East and North Africa. IBTauris.

[3] للمزيد من المعلومات عن العنف ضد النساء في الشرق الأوسط و شمال افريقيا, ارجع/ي الى كتاب:

[4]. كان عام 1984 العام الذي أدخلت فيه الجزائر تغييرات على الدستور. “قانون الأسرة لعام 1984 يجعل من واجب المرأة الجزائريّة طاعة أزواجهن واحترامهم وخدمتهم وخدمة أولياء أمورهن وأقاربهن (المادة 39 . (وهو يضفي الصبغة المؤسسية على تعدد الزوجات ويجعل من حق الرجل أن يتزوج أربع زوجات (المادة 8 .( ولا يمكن للمرأة أن تنظم عقد زواجها إلا إذا كان يمثلها ولي أمر الزوجية (المادة 11)، ولا يحق لها التقدم بطلب الطلاق. في حين أن الرجل يحتاج فقط إلى الرغبة في الطلاق للحصول عليه وجعل من الصعب إن لم يكن مستحيلا أن تحصل المرأة على نفس الشيء ” (صالحي 2003:30( .

http://www.artsrn.ualberta.ca/amcdouga/Hist247/winter_2011/resources/Algerian%20Women%20and%20the%20’family%20code’.pdf

[5]  الحجاب: يتكون من ارتداء وشاح يخفي الشعر والرقبة فضلا عن ثوب على كامل الجسم.

[6]  والفتوى هي وصية دينية تستند إلى قرار قانوني علمي.

[7]  الوهابية : سميت الوهابية استنادا إلى واعظ وباحث في القرن الثامن عشر، محمد بن عبد الوهاب (1703-1792). وهي حركه دينيه أو فرع من الإسلام السني بدا في المملكة العربية السعودية. انه شكل محافظ للغاية من الإسلام. لمزيد من المعلومات ، راجع: كتاب ديفيد كومينز (2006) : الوهابية والمملكة العربية السعودية (I. B. Taurus).

[8]  انظر:   https://www.facebook.com/Chkovein/?hc

[9]  الطاغوت: هو الحاكم الظالم الذي لا يتبع قواعد الله.

[10]  وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عليه الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.

[11]  وفي برنامج للأسئلة والأجوبة ، سئل الفوزان (المفتي الكبير للمملكة العربية السعودية) عما إذا كانت الطاغوت كافره، أي غير مؤمنه. وأجاب المفتي: “أنه مخير بين أن يحكم بما أنزل الله أو يحكم بغيره، أو أن الحكم بغير ما أنزل الله جائز، فهذا يعتبر طاغوتًا وهو كافر بالله عز وجل.”‏

[12] زواج المتعة، حرفيا “زواج مؤقت” وهو نوع من الزواج المسموح به في الإسلام الشيعي ألاثني عشري حيث يجب تحديد مدة الزواج والمهر والاتفاق عليها مسبقا. وتعتبر الباحثة وكذلك النّساء هذا الزواج وما يماثله في الطائفة السنية (زواج المسيار) بمثابة أشكال من البغاء الذي يعاقب عليه دينيا.

[13]  لمزيد من المعلومات حول الحجاب، انظر كتاب مارنيا لزرق استجواب الحجاب: رسائل مفتوحة إلى النّساء المسلمات (2011).

[14]  الجبهة الإسلامية: للانقاذ: حزب إسلامي

[15] التحالف النسائي ضد الأصولية الإسلامية في الجزائر: استراتيجيات أو دروس للبقاء ؟ “ص 118.

[16]  جبهة التحرير الإسلامية.

[17]  لمزيد من المعلومات حول كيف استخدامت مكبرات الصوت ، انظر الفيلم:

https://www.youtube.com/watch?v=2jKITX62qCM

[18]  لمزيد من المعلومات، انظر مقالة أيت حمو: URAit-Hamou_FundamentalismAlgeria.pdf

[19]  أمال قرامي، “رواية الإغتصاب في منطقة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: دور اللغة”، (المؤتمر: جامعة برمنغهام، كليه الآداب والموسيقي، قسم اللغات الحديثة، الفرع العربي، المملكة البريطانية ، 10/10/2014.

[20] Maïssa Bey, Sous le jasmin, la nuit (La Tour d’Aigues: Éditions de l’Aube, 2004).

إشراف

د. أنيسة داودي

المشاركات

كريمة بنون, المقررة الخاصة للأمم المتحدة في مجال الحقوق الثقافية, أستاذة القانون الدولي بجامعة كاليفورنيا ديفس, الولايات المتحدة

أمال قرامي, أستاذة في الدراسات الجندرية, جامعة منوبة, تونس

مريم بجاوي, أستاذة في الترجمة, مستشارة في وزارة التعليم العالي, ‏ الجزائر

SOAS إيمان كوزو عياري, محاضرة في مدرسة الدراسات الشرقية

ريم وارتسي, طالبة دكتوراه, جامعة كينقس, لندن. بريطانيا

سحر النعاس, باحثة مستقلة متخصصة في دراسات الجندر.اكستر. بريطانيا

فضيلة الفاروق, كاتبة و اعلامية جزائري, مقيمة في بيروت. لبنان

إنعام بيوض, أستاذة في الترجمة, مدريرة معهد الترجمة العالي في الجزائر

كلمة شكر

لم يكن لهذا المشروع أن يرى النور لولا الجهود التي بذلتها المُشاركات في هذا العدد اللاتي آمنّ بالمشروع و بأهدافه. و نخص بالشكر البوفسور رونالد جودي, الأستاذ في جامعة بيتسبرغ الأمريكية على تشجيعاته وتعاونه معنا منذ بداية المشروع وعلى قناعته بضروري للتواصل بين الأكادميين في الشرق و في الغرب. كما يرى أن تغيير أي خطاب ما في يحتاج الى تظافر جهود النساء و الرجال معا, فلا يقتصر الخطاب النسوي على النساء فقط بل هو مسؤولية مجتمع بأكمله.  كما لا يفوتني أن أشكر الأستاذة زاهية والأستاذة مرنيا لزرق وهما من أسس لكتابات العنف ضد النساء في الجزائر,على تشجيعهما وإمانهما بالمشروع.  أشكر دور كاتباتنا الجزائريات الللاتي سخرنّ أقلامهن لاعطاء أصوات لنساء بلادهن وأخص بالذكر فضيلة الفاروق وإنعام بيوض.

كما أنوّه بالمساهمة القيمة للمترجمين من الانجليزية الى العربية: د. مؤمن صالح, د. نرمين النفرة, وليد صبحي, د. غادة عرب وهشام مهرة ونورة الرشيد. ومن الانجليزية الى الفرنسية: د. وفاء بجاوي على ترجمتها لمقال د. داودي  وريم وارتسي على ترجمتها لباقي المقالات الى الفرنسية. كما أشكر وليد بوغيمة على مراجعته للنصوص بالعربية و د. ليندا نوال تباني و د. ايمان داودي على مراجعتهما لمقالات بالفرنسية. 

أوّد تثمين مساهمة الفنان الجزائري السيد دوني مارتينز الذي وجد من واجبه كفنان وكرفيق لجاووت و للكثير من المثقفين الذين اغتيلوا في الفترة الدموية أن يشاركنا ويشارك كل الجزائريات احساسهن بالفقدان. شارك معنا بالصورللوحاته والتي نتشرف بنشرها في هذا العدد. كما أشكر المصوّرو المخرج السيد محمد لمين بسكر على الصور التي أفادنا بها و على كل المساعدات اللوجستية.

و أخيرا لا يسعني إلاّ أن أشكر مؤسسة ليفرهيوم على دعمها ومساعدتها في المشروع وجامعة برمنجهام على رعايتها و احتضانها لمؤتمر”سرديات و ترجمات العنف الجنسي ضدّ النساء في منطقة الشرق الأوسط و شمال افريقيا.