ايمان كوزو –
القراءة الأنثوية ما بعد الاستعمار لعمل كل من آسيا جبّار, نساء الجزائر في شقتهنّ، ومليكة مقدم, أدين بكل شيءٍ للنسيان
“نحن لا نستطيع أن نترنم بالأناشيد حتى نكون قد شربنا من نهر الصمت، ولا نستطيع أن نباشر الصعود إلى الجبال حتى نصل إلى بداياتها، ولن نستطيع أن نرقص حتى تتسلم الأرض جميع أعضاء جسمنا.” جبران خليل جبران – النبي.
إنّ حرب التراث ضد الحداثة باتت تزعزع الحياة الاجتماعية والسياسية في الجزائر في الوقت الحاضر، وتعيد إلى الأذهان أفعال العنف والصمت في زمان الاستعمار. إن صمت المرأة الجزائريّة ربما يكون فعلاً مقاوماً سواءً اجتماعياً وثقافياً وإيديولوجياً، وهو وسيلة لدفن الحقيقة الفظيعة وإغلاقها في قبر منسي ، وحجبها بعيداً عن أنظار العالم. إن الصمت فرضه واقعٌ استعماريٌ ولا يزال ينفذّه مجتمع ما بعد الاستعمار. في بعض الأحيان، يمثل الصمت رفضاً طوعياً للتحدث، كدلالةٍ على الفضيلة والتواضع؛ وفي أوقات أخرى، هو سلاحٌ لمقاومة الشر. خلال الفترة الاستعمارية، كان الصمت بمثابة رفض التحدث بلغة الظالم، كفعلٍ لمقاومة فقدان الهويّة. بعد الاستقلال، استخدم العديد من الكتاب الجزائريين لغة المستعمر لمقاومة الانحدار الثقافي والاجتماعي ومحاربة الانقسام بين المساحات “الداخلية” و “الخارجية”.
وهكذا أصبح الصمت عملاً سياسياً يمكن للنساء من خلاله تخريبُ خطاب الظلم من خلال الإبقاء على عالمهن السري.
وقد واجهت الجزائر أيضاً مساحة النضال المؤنث هذه، المرتبطة بالمجالات العامة والمحلية، بعد حصولها على الاستقلال؛ واضطر السياسيون إلى تقرير ما إذا كانوا سيسمحون بوجود المرأة في الحيز العام “الخارجي” الذي كان يشكل ساحة القتال ضد المستعمر؛ أو إعادة النّساء إلى الفضاء المحلي، إلى الدور التقليدي للأمومة ورعاية الأسرة.
اختارت الحكومة الجزائريّة الخيار الثاني، متجاهلةً دور المرأة في النضال من أجل الاستقلال. لقد قاتلت النّساء جنباً إلى جنب مع الرجال من أجل الحرية، وقد عانينَ من نفس العنف والتعذيب والثورة والمقاومة مثل الرجال. وقد أثبتت المرأة، مثل جميلة بوحيرد، أنها مساوية للرجل في الحرب، ونتيجةً لذلك، سعت إلى تحسين الظروف الاجتماعية للمساواة في البلد التي من أجلها خاطرت بحياتها. ومع ذلك، كان السلام طوباوياً، وخاصة بالنسبة للنساء، فقد واجهت البلد الصّراع الداخلي ضد التطرف والحداثة، وواصلت النّساء كفاحهم من أجل التحرر. ولا تزال المرأة مهمشة بموجب القانون والتقاليد والمجتمع حتى يومنا هذا وتعتبر دائماً ثانوية بالنسبة للرجال، وبالتأكيد في صنع القرار.
وعلاوةً على ذلك، فإن استمرار قبول الجزائر لتعدد الزوجات في قانون الأسرة (1984) يدل على عدم رغبة البلد في قبول التحول الاجتماعي؛ حيث يبدو أن المغرب وتونس، اللتين اتبعتا مساراتٍ مختلفةً جداً للاستعمار وإنهاء الاستعمار عن الجزائر، بدتا أكثر استعداداً لاحتضان الحداثة.
ولا تزال هذه الملاحظات المتعلّقة بالعنف الموجه ضد المرأة وإسكاتها في الفترة الاستعمارية ذات أهميةٍ في الوقت الراهن. تنتمي مليكة مقدم إلى الجيل الجزائري ما بعد الاستعمار الذي يعتبر الاستعمار قصة واحدة في كتاب التاريخ. في رواية سيرتها الذاتية التي نشرت في عام 2008، أدين بكل شيءٍ للنسيان، تحلّق مقدم بين فرنسا والجزائر، وتقارن هذه الأخيرة مع مدية الأسطورية. وعلى غرار سرد مقدم، فإن عمل آسيا جبار نساء الجزائر في شقتهنّ عام 1980، وترجم إلى اللغة الإنجليزية في عام 1992، حيث تنتقل بين البلدين وتجمع بين قصص النّساء الجزائريات المسلمات وكيفية التعامل معهن واضطهادهن.
وعلاوة على ذلك، يناقش النّصان إسكات العنف الموجه ضد المرأة. توضح هذه الورقة المقدمات المنطقية لكلتا الكاتبتين حول “الصمت والعنف”، “إسكات الإغتصاب”، والطرق التي يتعامل بها أبطالهم مع مثل هذه الصّراعات.
تصف جبّار في نساء الجزائر في شقتهنّ، المذابح والإهانات التي تعرضت لها المرأة الجزائريّة خلال حرب الاستقلال ضد المستعمر الفرنسي، والعنف الداخلي اللاحق. ويتكون النّص من مجموعة من القصص القصيرة عن الماضي والحاضر في الجزائر، وهي مستوحاة من اللوحة ديلاكروا 1834 والتي تحمل نفس الاسم. يتم عرض هذه الأصوات المؤنثة المركبة على أنها “همهمات… مجزأة” وأن الكاتبة توحدها كقطع مرآة مكسورة تعكس واقع ‘تحت الأرض’، مغطاةٍ بشدة بخطاب سائد. تبدأ جبار سردها مع مقدمة طويلة، تلخص نهجها ومواضيعها وتقنياتها:
هذه القصص، بضعة أطر مرجعية في رحلة الاستماع، من 1958 إلى 1978. محادثات مجزأة، متذكرة، ومعاد تشكيلها […]. كنت أستمع إلى هذه الأصوات بغض النظر عن اللغة، غير المكتوبة، غير المسجلة، التي تنتقل فقط من خلال سلاسل من أصداء وتنهدات. […]. لغة مشجعة، لم تظهر أبداً تحت ضوء الشمس، غير أنها في بعض الأحيان تكون مرتلة ومخاطبة وفيها عواء ودرامية، ولكن دائما الفم والعينين في الظلام […] نغمات الصوت لا تزال معلقة في صمت الحريم الأمس […] كلمات من الجسم المحجوب، واللغة التي بدورها اتخذت الحجاب لفترة طويلة من الزمن.
تصورُ القصص النّساء من خلفيات مختلفة: الفكرية، والريفية (نساء الأرياف)، والشباب، والكبار، والمقاتلات والصامتات. تعيش بطلات جبار في الجزائر أو فرنسا ويتحملن صراعاً يومياً مع ندوبهن من حرب الاستقلال والتوترات الداخلية والاضطهاد الاجتماعي والسياسي. على سبيل المثال، تمزج جبار قصة زوجة الجراح المتعلمة التي تسعى لمساعدة صديقة طفولتها الفرنسية مع أمراًة مسنّة تحمل المياه في الحمامات العامة؛ وعلى حد سواء تذكر ما تحملنه وخسرنه طوال حياتهنّ. وعلى الرغم من اختلاف تلك النسوة، فإنهن يشتركن في تجارب متماثلة من الإغتصاب والسجن والنّفي والترمل والبغاء والصمت. إن إسكاتهن ّمن خلال قانونٍ صارمٍ ومجتمعٍ يعززه صمت أصدقائهنّ وإخوانهنّ وآباءهنّ الذين يقتلونهنّ عادةً، وفقاً للمقابلات والروايات لهؤلاء النّساء، ويطلبن من المهاجمين قتلهن أو نفيهن، وإنكارهن من الأسرة واللقب، ومن ثم بيعهنّ إلى البغاء. مجموعة القصص من 1958 إلى 1978 تكشف كيف تدمر الحرب النّساء.
في النّص، يصف الناقل المائي في الحمام كيف تصور المرأة الجزائريّة في المجتمع المعاصر. في تيار من الوعي في أول شخص، يكشف العامل عن العبء “تحت الأرض” كما يروي كيف أنها تم بيعها في الزواج في سن الثالثة عشر وكيف تمزق حياتها بعيداً في العبودية الدائمة مع أفراح لا نهائية بأنها مرفوضة. أطلقت صرختها من قلب الصمت: “أين أنتنّ، أنتنّ حاملات النار، أنتنّ أخواتي، اللواتي كان ينبغي أن تحررن المدينة … الأسلاك الشائكة لم تعد تعيق الأزقة، وهي الآن تزين النوافذ والشرفات، كل شيء على الإطلاق سيفتح على مساحة خارجية”. ثم تعود للحديث عن انتهاكاتٍ أخرى، معبرةً بشكل دائمٍ عن الإحساس بالمساحة، وتذبذبها الملفت ما بين الداخل والخارج.
يسعى عمل جبار إلى استكشاف الهويّة الثقافية الجزائريّة، من خلال إعادة بناء الذات الموضوعية للمرأة، من خلال كتابة قصص النّساء التي تنتقل من جيل إلى آخر شفهياً أو باللهجة أو باستخدام لغة الآخر. على مر القرون، كانت النّساء محجوبات في أماكن محصورة منفصلة؛ وإن الكشف عن قصصهنّ من وراء الأبواب المغلقة يعد عملاً تحررياً، يكشف أسرارهنّ ويسمعن أصواتهنّ التي كانت ساكنة سابقاً. فعلى سبيل المثال، تصف البطلة آن، التي تعيش في فرنسا، الجزائر العاصمة على النحو التالي:
في هذه المدينة الغريبة، المشبعة بالشمس، ولكنها مليئة بالسجون المغلقة من أعلى كل شارع، هل كانت النّساء تعيش لنفسها أو قبل كل شيء، إن تحدثنا عن مجموعة أكبر من النّساء التي قد كانت أسيرةً في الماضي، جيلاً بعد جيل، بينما ظاهرها يسقط نفس الضوء الأزرق غير المتغير، ونادراً ما يكون غائماً؟.
في كلمات آن، من الصّعب الكشف عن الأصوات الأصيلة للنساء خارج الصمت والعزلة التي يتعرضنَ لها. ومن خلال التمكن من الكلام وإعادة الإحياء، تستعيد هؤلاء النّساء السيطرة على المساحة وتتحكم في النظرة الخاصة بهن، وتتوجهن بحريّة في المساحة حيث يمكن تحقيق رغباتهن في التحرر والإبداع. حريّة العين تتوافق مع تحريرها من الجسم والعقل، بغض النظر عن المكان الذي يسكن فيه الشخص.
ومن ثم، فإن هدف جبار لا يصبح “التكلم باسم” أو “عن”، ولكن “قريبة” من النّساء، في بادرة تضامن تدعو فيها جبار جميع النّساء، وهذا العمل يجعل جبار تعمل بين الأصوات “السرية” على التذبذب بين الذاكرة ونسخها من خلال الشهود الأوائل، وتهدف هذه الأصوات الصامتة إلى غزو الفضاء العام باستخدام الكتابة كتعبير عن الحريّة والحركة، وعلاوة على ذلك، من خلال الكشف عن أسرار الحياة الداخلية للبطلات، فإن جبار تعيد رسم الصورة عن المرأة الجزائريّة وتعرضها للعالم.
إن التجريب الفني لجبار واستخدام الكتابة المجسمة ربما يمثل محاولة زعزعة استقرار التمثيل، وبالتالي فهو وسيلة لإعطاء صورة الطبيعة المتقلبة وعلاقتها بالخيال والأصالة. إنها تلعب على الحدود بين المرئية وغير مرئية، المنطوقة وغير المعلنة، والواقع والخيال. من خلال الترفيه وإعادة الكتابة، تحاول جبار إعادة بناء صورة واضحة عن المخفي وإعطاء صوت إلى الإسكات السابق من قبل النظم الثقافية والسياسية التي تجعل المرأة غير مرئية. من خلال نظرة الآخرين، التي تقع في الفضاء العام الخارجي الذي تظهر فيه النّساء محجبات وهامشية، جبار تدخل قراءها إلى التفكير في النظرة؛ ثم يصبح التحليل أكثر تحديداً، وتسلط الضوء على النظرة الغربية على الشرق كأمراًة. نظرة مسلية أو فضولية تعكس التجربة الكاملة للاستعمار. من خلال إسكات وسجن النّساء أو استعمارهن، يمارس الغرب سلطاته في تفسير الجزائر.
يتم استكشاف هذه الفكرة نفسها في عمل رانيا قباني أسطورة الشرق في أوروبا والتي تتعرف على السمات المشتركة المحتملة للمسافرين الغربيين في الشرق الأوسط كمساحة من الاحتمالات:
“كانت أوروبا مسحورة من قبل المشرق الذي يتألق مع الإمكانيات التي وعدت بمساحة جنسية من إملاءات الأخلاق البرجوازية للمدينة. رد الفعل الأوروبي على اللقاء كرجل قد يتفاعل مع أمراًة، من خلال إظهار جاذبية قوية أو تنافر قوي. ووصف إي. و. لين أول رؤيته لمصر، مصر التي كان يحلم بها منذ الصغر، فقال: “عندما اقتربت من الشاطئ، شعرت وكأنني عريس شرقي، على وشك رفع حجاب عروسه”.
في مواجهة الشرق، قد يكون المسافر دون وعي، كما تقول قباني: “يكشف عن مفهومه المسبق للأرض”. ومع ذلك، في التحليل التالي، يتم استخدام المشرق ومفاهيمه المشتقة باعتبارها شاملة لمنطقة شمال أفريقيا. بينما من منظور أوروبي، فإن شمال أفريقيا هو الشرق؛ يعتبر الشرق العربي المغرب (الكلمة العربيّة للغرب) غرباً، وغالباً ما يصور هذه المنطقة على أنها مختلفة تماماً عن بقية العالم العربي بسبب التأثيرات المختلفة من البربر والأفريقية وذوي الأصول المتوسطية. هذا الموقف المتنازع يخلق أزمة هوية للسكان الهجينين في شمال أفريقيا، ويؤدي بالتالي إلى اشتباكات سياسية وثقافية بين الجماعات التي تلتزم المعتقدات الإسلامية التقليدية السلفية، والبعض الآخر يشعرون بطبيعة الحال أنهم السُّكان الأصليين للبحر الأبيض المتوسط، ولا يمكن التعامل مع نمط الحياة المعاصر”.
ويبدو أن الاحتمالات الكثيرة التي يقدمها الشرق إلى المتلصص الاستعماري تشمل تحرير الموانع الغربية بدلاً من مراقبة الفضاء الحقيقي. وهذا يعني أن الشرق قد رُسم بالفعل في عقل المسافر من خلال التقليد الغربي للكتابة عن الآخر، وبالتالي فإن المسافر لا يكتشف الشرق بنفسه. وكثيراً ما يواجه هذا التفاعل بين الهويّة والاختلاف من قبل كتاب الشرق. يصبح الفضاء “الغامض والغريب” الآخر، الذي يقدم ما ينكر المكان المناسب. ومع ذلك، فإن الفضاء المحير يقاوم صورة الثقافة الاستعمارية وقوتها للتحديد والنشر. ويستند المفهوم الغربي للشرق، كما يجادل عبد الجان محمد، على الرمزية المانوية (رؤية العالم كما ينقسم إلى تناقضات اقصاء متبادل): “فإذا كان الغرب منظماً وعقلانياً ومذكراً وجيداً، فإن الشرق فوضيٌ وغير عقلاني ومؤنثٌ وشريرٌ”. ببساطة لعكس هذا الاستقطاب هو أن تكون متواطئة في مجموعتها وتدميرها السلطة (يتم تخفيض كل ذلك إلى مجموعة من الثنائيات، أسود أو أبيض، الخ).
إن الشعوب المستعمَرة تُصور بأنها أقل شأناً من حيث طبيعتها وتقاليدها من المستعمر “المتحضر”، وغالباً ما يفسّر عالمها بالتقسيم الجغرافي للكوكب، حيث يكون الناس “مجملين” أو “ضروريين” – من خلال مفاهيم مثل الوعي الأسود، والروح الهندية، والعرب، والبدو، والثقافة الأصلية وما إلى ذلك. في الواقع، ليس من قبيل المصادفة أن المصنفين الأدبيين اللذين يعتبران الأكثر تمثيلاً ل “اللقاء الاستعماري”، شكسبير العاصفة (1623) ودانسون ديفو وروبنسون كروزو (1719)، أحداث وصول الأوروبيين في المناطق غير المأهولة، والتي لم تكن حقاً غير مأهولة، والتي يعلنون أنفسهم فيها كسادة، ويحرمون الشعوب الأصلية من حقهم في أرضهم. في الشرق، التأثير الأول يختلف في أن الأراضي يتم إفراغها جزئياً، ولكن إسكاتها تماماً؛ بسبب الفجوة اللغوية، لا يستطيع المستعمر فهم اللغة العربيّة ومشتقاتها، فهو يكتب النّصوص بناء على تصوره للسكان الأصليين وأرضهم. وفي إسكات مواطنيها، يملأ المسافرون في شمال أفريقيا الفراغ اللغوي الذي يعيق التواصل مع السُّكان الأصليين. من خلال الحديث باسم “العربي” فإن المستعمر غير قادر على تفسير بعض الظواهر، ويصنف كل الاختلافات في تسمية “غير متحضرة” و”غير تاريخية” و”قديمة” وبربرية.
وبالتالي، فإن نشر صور محددة وسلبية عن الآخر ساعد في الحفاظ على المشروع الاستعماري، كما استكشف في الاستشراق إدوارد سعيد (1978)، نصاً تأسيسياً في مجال الدراسات ما بعد الاستعمارية. في النّص يدرس سعيد مجموعة من الوثائق الأدبية والأنثروبولوجية والتاريخية من أجل إلقاء الضوء على كيفية محاولة الغرب لتمثيل الشرق كالآخر الصامت. ومن خلال نشر بيانات موضوعية مزعومة حول الشرق وتصوير الشرق على أنه أقل ثقافياً وفكرياً، تمكن الغرب من بناء صورة لنفسه من التفوق. ويدعي سعيد أن الخطاب الاستشراقي ينبغي ألا يفهم فقط على أنه نتاج للاستعمار، لأن الأول يسبق هذا الأخير. ويشدد مراراً على أن الاستشراق ليس في حد ذاته ناجماً عن الاستعمار، بل يشير أيضاً إلى أن الجهاز الأيديولوجي المعقد وتمثيل الشرق من جانب جزء من أوروبا كان أحد التوجهات الرئيسية للتجربة الاستعمارية. ويعرف سعيد الاستشراق بأنه “أسلوب غربي للهيمنة، وإعادة الهيكلة، والسيطرة على الشرق”. ويعني أن الاستشراق هو نسيج ثقافي وليس ظاهرة طبيعية أو جغرافية. في الواقع، لا يتم إنشاء الفضاء فقط ولكن أيضاً “الاستشراق” من قبل الغرب، وبالتالي فهو يحاول كشف وتصوير الادعاء الزائف على الآخر.
واستوحى سعيد من هومي بهابها في تفسيره للاستشراق. إن أفكار بهابها تذكرنا بتأملات سعيد فيما يتعلق بالطريقة التي يتدخل بها الغرب في إطار نظام التمثيل هذا بالدعوة إلى التدقيق في الخطابات الأوروبيّة المتنوعة التي تمثل “الشرق” كمنطقة عرقية وجغرافية وسياسية وثقافية موحدة للعالم ‘. كما يتفق بهابها مع تعريف سعيد الاستشراق:
الاستشراق بشكل عام هو شكل من أشكال الواقعية الراديكالية. فأي شخص يستخدم الشرقية، وهي العادة للتعامل مع الأسئلة والأشياء والصفات والمناطق التي تعتبر شرقية، سوف تعين الاسم، وتشير إلى إصلاح ما يتحدث أو التفكير في كلمة أو عبارة، والتي تعتبر بعد ذلك إما أن تكون قد اكتسبت، أو ببساطة أكثر أن تكون واقعاً …. والتوتر الذي يستخدمونه هو الأبدية الخالدة؛ فإنها تنقل انطباعاً عن التكرار والقوة.
الواقعية الناتجة عن الخطاب الاستعماري هي واحدة من الأفكار الرئيسية في عمل جبار. تعبر جبار عن رغبتها في إعادة كتابة الجزائر، معتبرةً أن الفظائع التي ضاعفت المكان الذي تعرضت له ثلاث مرات عندما كان الموضوع هو المرأة الجزائريّة. يتم إسكات هؤلاء النّساء في الجزائر وتهميشهن من خلال التقاليد والاستعمار والبطريركية. وفي الواقع، فإن المرأة “الشرقية” تعطى تسمية أو منطقة عنصرية وجنسية موحدة في العالم. وهؤلاء النّساء يوصمن بوصفهن عبيد جنس وحريم ونساء للمتعة والجهل والساحرات والراقصات والبغايا، وأقل عفةً من النّساء المسيحيات. هكذا كان يتم توجيه النّساء في شمال أفريقيا في تاريخ ثابت، على أنهنّ غير قادرات على أن يكنّ شاعراتٍ وكاتبات ومعلمات وطبيبات وقادة ولديهنّ القدرة على منافسة الذكاء الغربي.
وتخصص جبار قسماً كاملاً من نساء الجزائر في شقتهنّ للتحدث عن وصول الرسام الفرنسي ديلاكروا في الجزائر العاصمة عام 1832، حيث تتاح له الفرصة لاكتشاف الحريم للمرة الأولى، وهذا المكان الذي تجمع فيه النّساء والأطفال “مستلقين في وسط كومة من الحرير والذهب”. وهذه التجربة غير المتوقعة والصادمة ستضمن أنه بعد عودته إلى باريس، يعمل الرسام لبضع سنوات على ‘صورة ذاكرته’، التي مكنتها الملاحظات التي أدلى بها خلال زيارته للحريم. وهو يرسم لوحته نساء الجزائر في شقتهنّ في عام 1834 وأخرى في عام 1849. تحلل جبار العملين وتقارنهما باللوحات اللاحقة التي رسمها بيكاسو بين عامي 1954 و 1955.
لوحة بيكاسو نساء الجزائر في شقتهنّ 1955.
يصور دولاكروا في لوحته ثلاث نساء نصف مستلقيات، غائبات، تنظرن للفراغ، تلفهنّ هالة من الغموض والحسية؛ يفاجئن بنظرة المشاهد ويشرف عليها خادم أسود في سجنهن الفاخر. يتم تعليق هذه النّساء أو تجميدهن في صمت غريب. إن الصمت الغامض لنظرتهن المبين على لوحات الرسام الاسباني يكشف كيف استمرت هيمنة الذكور على الجسد الأنثوي على مر القرون، وبرزت خلال الحكم الاستعماري كشكل من أشكال الدفاع والحفاظ على الثقافة والتقاليد ضد وصول الغريب/الدخيل.
تتفاعل جبار مع ثبات النظرة نحو المرأة الجزائريّة في وجودها المعلق المتجسد في اللوحة. رد فعلها هو ضد الانغلاق الفكري والفعل القمعي لجعل الثقافة الفرعية المستعمرة ‘مغلقة، ثابتة في الوضع الاستعماري، واشتعلت في قلب القمع. كل من الحاضر والمحنّط، يشهد ضد أعضائها.
التحنيط الثقافي يؤدي إلى تحنيط “التفكير الفردي “، في عبارة بهابها. وفي عملية صنع التاريخ الاستعماري، تنفى فيه المرأة إلى صمت وتخفي أكبر؛ وبالمثل، في صميم التفكير الجزائري ما بعد الاستعمار، الصمت أمر بالغ الأهمية في بناء “الاختلاف”. الحريم يصبح سجن يعزز للمستشرقين اللعب المتلصص على الأنثى الغريبة. هذه النظرة تجسد مجازياً هؤلاء النّساء من حجابهن التقليدي وهكذا يصبحن “عراة” وعزل. وبعد الاستقلال، كان الماضي ينظر إليه على أنه ضياع لا رجعة فيه، حيث لم يسمح للنساء فقط بتشجيع الرجال في المعركة ولكن أيضاً للانضمام إلى القتال، واستولى الرجل الجزائري على نفس الاستراتيجية من المستعمر. كما تجادل جبار، للمرأة لإزالة الحجاب لها أن تكون بمثابة “الخروج سافرة”. النّساء اللواتي حاولن الانضمام إلى الأماكن العامة رفضن اجتماعياً لأنهن رفضن أن يكونوا محجبات. “يمكن بسهولة مقارنة الحياة العامة والخطاب العام بدخول عدو حصري تقريباً من أراضي العدو الذكور”، حيث الرجال الجزائريين و “حتى الخطاب الدفاعي للمرأة عن أنفسهم في كثير من الأحيان يوفر المتلصص مع أسلحة إضافية لذلك يجب على النّساء تجنب عرض أعماقهن (وأنوثتهن) من أجل تجنب التعرض للتخفيض والعدوان البدني واللفظي “.
خارج الحريم، الحجاب على حد سواء فرصة للنساء للتحرك بحريّة في الأماكن العامة من خلال الطرح من الجسم إلى نظرة الآخرين وشكل من أشكال السيطرة أو علامة على الانتماء. ينظر إلى النّساء المحجبات على أنهن خطر، “لص ممكن في الفضاء الذكوري”، وفي الوقت نفسه وجوه شرف وكرامة الرجل. في لوحات ديلاكروا، يتم تعميم نظرة صامتة أو غائبة لتغطية المرأة الجزائريّة خلال فترة الاستعمار والاستقلال.
ومن ناحية أخرى، فإن النظرة المسروقة للرسام تمثل النظرة المحظورة للآخر. ويصبح إطار اللوحة والمساحة التي تراها العين هي صورة السجن الذي يستكشفه بيكاسو في لوحاته، ويخلق خطوطا متحركة، ويغلق باب الحريم، ويضيء الغرفة بالضوء ويصور الجسم في الحركة. أما بالنسبة للنساء، فإن النسخ المختلفة تعطيهن الحريّة في أن تكنّ محجبات، أو أن تكنّ عاريات، وأن تواجهن رسامهن بابتسامة مغرية، أو أن تكن وجهاً بدون ميزات محددة. فالسمات الغائبة والهويّة تضع الرسام في موقف صامت؛ حيث نجد أن بيكاسو أسكت فراشيه وأطلق العنان للوجوه اللانهائية والخيالات الجامحة. بيكاسو يعلن تحولاً جذرياً في المنظور، ويطلق على لوحاته بالحروف الأبجدية في الفوضى بحيث يقرأ جمهوره الرسائل داخل حركات وخصائص المرأة الجزائريّة التي تكتب كلمات مختلفة في كل مرة ينظر إليها المرء. من خلال إعطاء تفسيرات لفظية لانهائية في لوحاته، بيكاسو يكسر صمتهن ويخلق استجابة.
في عام 2009، يوسي واكسمان يقدم تفسيراً آخر لـ ” نساء الجزائر في شقتهنّ “، الذي يعطي المرأة مظهراً عالمياً من خلال الجمع بين السمات المادية؛ فهو يمزج الألوان، ويحلها كما لو أنه قد غسلها بعيداً عن قيمتها. ولا يمكن تمييز المرأة على أنها جزائرية. ومع ذلك، فإن التحرر من حالة السجن لا يحدث من خلال غزو المساحة وإمكانية التنقل، ولكن من خلال إدخال الكلام والحوار بين النّساء. فتعلق جبار:
المرأة الجديدة في الجزائر التي يمكن أن نعممها بحريّة ابتداء من السنوات القليلة الماضية، […] هذه النّساء هي (نحن) بعيدة تماماً عن العلاقة الغامضة التي حافظت لقرون على جسدهم؟ هن يتحدثن حقا، يرقصن، أو يفكرن …
نفس الأفكار من تشويه الإناث وإساءة استخدام الجسد الأنثوي من أجل تقاليد الأبوية والدّين يردد صداه كاتبة جزائرية أخرى. في الواقع، في عمل مقدم أُدين بكل شيءٍ للنسيان، صورة صمت المرأة والإغتصاب تمتد إلى المساحة الفرنسية. الإغتصاب هو السلاح المادي والأخلاقي والنفسي والرمزي للحرب. “المادي” هنا يشير إلى اغتصاب السلطة على جسم المرأة. ‘الأخلاقي’ إلى ربط جسم المرأة بالشرف العائلي أو القبلي؛ “النفسي” إلى الشعور بالنقص وفقدان السيطرة، ولا سيما في أعمال الإغتصاب التي يرتكبها المستعمر؛ و “الرمزي” إلى الاستخدام المجازي لهيئات المرأة لتمثيل الجزائر. من خلال تخصيب تلك النّساء من “العدو”، ستكون هذه الأرض مأهولة من قِبل ذرية العدو. ولهذا السبب، في وقت الحرب، اغتصبت النّساء من قبل أسرهن، وأعدن إلى المعتدي عليهن ليتم قتلهن أو بيعهن للبغاء. وهذه الجوانب المدمرة من الإغتصاب تجعل منه أكثر الأسلحة مهينة.
في روايتها الصادرة عام 2008 أدين بكل شيءٍ للنسيان، تسلط مقدم الضوء على وضع المرأة في الجزائر بعد الحروب التي مزقت البلاد خلال القرن العشرين. في هذه الرواية، بطلة الرواية سلمى هي طبيبة أطفال تعيش في فرنسا؛ تعذب بإحياء مفاجئ لماضيها، عندما جاء رجل من الضواحي إلى مكتبها الطبي على وجه الاستعجال لإنقاذ حياة ابنه. هي لا تعرف الرجل، بصرف النظر عن كونه مهاجراً، لكن طفله الذي كان يموت على ذراعيه أحيى ذكريات قديمة عن رضيع قتله والده. لأول مرة، سلمى لديها استرجاع للذكريات يزعجها ويجبرها على العودة إلى مسقط رأسها ومواجهة عذابها. وفي هذه العملية، تقرر أن تواجه والدتها والجزائر. وهي تعيد اكتشاف الإغتصاب والصمت والعنف الدائم ضد المرأة الجزائريّة.
في الرواية، يكافح الراوي مع شخصيتين متميزتين تمثلان الصعوبات التي تواجهها المرأة الجزائريّة: بطلة الرواية الشابة ووالدتها. يتقلب الراوي بين طرفين متطرفين. فمن ناحية، يرى المرء أن المرأة التقليدية، ولا سيما الأم، هي أفضل دور يقبله المجتمع الجزائري ويقيمه لدى المرأة. الأم تمثل التقليد الذي يربط المرأة الافتراضية وخضوعها للإملاءات الأبوية. من ناحية أخرى، هناك أمراًة شابة متمردة، سلمى الناشطة بشكل رئيسي في الحياة الاجتماعية، والتي تحارب من أجل الكرامة والتحرر.
وبالنسبة لمقدم، فإن شخصية الأمومة هي جوهرية ورمزية لكيفية أن الجزائر تعاني من التقاعس الخبيث، الذي يقوض جهود الأجيال الجديدة الرامية إلى تحقيق تنمية نفسية وثقافية سليمة. والدة سلمى أمية، وبالتالي فهي صامتة باستمرار، وهي راضخة للصمت. وبالنسبة لمقدم، فإن نقص المرأة في التعلىم يساعد على تفسير الصّراع بين سلمى وأمها والنّساء اللواتي يعشن معها:
وفي هذا المقتطف، يعيق الجهل والأمية إحياء المرأة. إن النّساء المغاربيات مثل أم سلمى، لا يعرفن التطور التاريخي للنساء خارج دائرتهنّ وحيهنّ وبلدهنّ. وهن غير قادرات على إدراك النّساء في وضع اجتماعي قوي؛ النّساء اللواتي يقررن بأنفسهن دون أن يطلبن إذن من سلطة أو أب أو أخ من الذكور؛ النّساء اللواتي يعشن حياتهن بشكل مستقل عن دعم الذكور. وهنّ يواصلن العمل وفقاً للتقاليد في أكثر التفاصيل اليومية تفاهةً؛ يجب أن تكن خجولات من الأنوثة، ويجب أن تطلبن الإذن لرفع عيونهن أو التحدث أمام أقاربهنّ الذكور. ولذلك فهنّ يؤمنن بعدم استقرار الزمن والعادات. والدة سلمى هي سجينة عصرٍ مواز، غير قادرة على تطوير طريقة متباينة للتفكير لأنها كانت مشرفة على إدراك هذه الطريقة المحافظة للحياة باعتبارها الأيديولوجية المناسبة أو الصحيحة الوحيدة للجزائر.
وتظهر مليكة مقدم في روايتها أن الجهل هو سبب عزوف الجزائر عن التكيف مع المجتمع الحديث. الجهل، نذير من الفقر المعمم، ينزل الصمت الذي يميز ذكريات الطفولة عند سلمى. الصمت يطغى على حياة هؤلاء النّساء. وهؤلاء النّساء ينقلن التقاليد الجزائريّة إلى بناتهن ويتجنبن الحديث عن مشاعرهن، وكأن الأمور يجب أن تكون هي نفسها بالنسبة لأي أمراًة. يجب أن تحدث الأمور في صمت لهؤلاء النّساء. وتؤمن مقدم بالدور الحاسم الذي تلعبه المرأة الجزائريّة في الكفاح من أجل وضع معالم وقيم المجتمع الجزائري في المستقبل بعد مواجهات الثورة والاستقلال والصّراع بين القومية والتطرف والحداثة التي مهدت الطريق لعدم المساواة والفوارق بين الجنسين.
وتظهر الرواية وجود موقفٍ مشتركٍ من الصمت الذي يميز سلوك المرأة والسّياق العام للجزائر. والصمت التامري وسرية أم سلمى هو رمز لموقف جزائري واسع النطاق يهدف إلى إخفاء حتى أشنع الجرائم. إن الصمت وحده يضمن الملجأ من خطر التغيير. والواقع أن الراوي يصف العلاقة بين سلمى وأمها والجزائر على أنها محكومة بالصمت: